[size=18][center]في أكله من الشجرة بعدما نهي عنها
اختلف الناس في هذه القصة اختلافا لا يكاد ينضبط وذلك لأن الله تعالى ما نص على
معصية لنبي إلا لآدم عليه السلام خصوصا فلما كان ذلك وجد أهل الدعاوى وأهل الحيرة
مع ما دهاهم من عدم التحقيق وكيد الوسواس سبيلا إلى الإخلال بحقه عليه السلام
حتى سطروا في الضبائر وأفصحوا على المنابر بأن قالوا إذا كان راس الدن درديا فما ظنك
بقعره
وهذه وصمة تجر إلى تنقيصه وتنقيص من بعده من الأنبياء عليهم السلام وهو مقصودهم
في ذلك وشرحوا قوله تعالى فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما أنهما لما عصيا سلب
الله عنهما أنوار الربوبية الروحانية التي كانت فاضت عليهما منه تعالى عما يصفون فطهر
لهما الجسم الترابي المجبول على المعصية فعلما إذ ذاك أنه منه أتي عليهما فأوجبوا
المعاصي للأجسام الترابية وأنبياء الله تعالى كلهم أجسام ترابية وهي ظاهرة لهم
وهذا أقل ما نسبوه لآدم عليه السلام
فصل
وأول ما ينبغي أن نقدم أن آدم عليه السلام لم يكن عندما أكل من الشجرة نبيا والعصمة
لا تشترط للنبي إلا بعد ثبوت النبوة له فمن الناس من ذكر الإجماع على أنه لم يكن نبيا
عندما أكل من الشجرة ومنهم من اكتفى بظاهر قوله تعالى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهذا
عطف ب ثم التي تعطي المهلة ثم ذكر الاجتباء والهداية
والاجتباء هنا النبوة بدليل قوله تعالى في سورة مريم عليها السلام عندما عدد الأنبياء
عليهم السلام ومناقبهم على التفصيل قال وممن هدينا واجتبينا يعني من النبيين أجمعهم
وقال في قصة يونس عليه السلام بعد قصة الحوت فاجتباه ربه وهذا وجه من الوجوه يثبت
أكله من الشجرة قبل نبوته لا
فصل
والذي ينبغي أن يعول عليه في قصة آدم عليه السلام أن نهيه عن الشجرة كان نهي
إرشاد وإعلام على جهة الوصية والنصيحة لا على جهة التكليف فإنه ما صح تكليفه في
الجنة ولا نبوته في كتاب ولا سنة والأوامر والنواهي تنقسم إلى مشروع وغير مشروع
كالأوامر اللغوية فإن السيد قد يقول لعبده والأخ لأخيه والصاحب لصاحبه على جهة الإعلام
والإرشاد والنصيحة افعل كذا واترك كذا تسلم من كذا وتظفر بكذا وكذلك أوامر الأطباء
للعليل بالحمية والدواء والغذاء إلى غير ذلك
فكان أمر الله تعالى لآدم عليه السلام بسكنى الجنان والأكل الرغد ونفوذ المشيئة من باب
الإعلام والتأنيس بالبشارات بأنه لا يجوع فيها ولا يعرى ولا يظمأ ولا يضحى وكان نهيه له
على جهة الإرشاد المتقدم ذكره أو التحذير مما تؤول إليه عقباه إن فعل ما نهي عن فعله
في خروجه عن الجنة وشقائه في الدنيا والإعلام بمكيدة الشيطان والتحفظ منه وكونه
عدوا حاسدا له
وهذا معلوم في اللسان وما جرت به العادات وقد أمر الله تعالى إبليس بقوله واستفزز من
استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم
فهذه أوامر على جهة الوعيد له والتهديد كقوله تعالى للكفرة اعملوا ما شئتم وليست
بتكليف إذ لو كانت على جهة التكليف بفعلها لكان وقوعها منه طاعة وهو عاص في هذه
الأفعال إجماعا
وقد أمر الله موسى عليه السلام بأخذ الحية ونهاه عن الخوف منها حيث قال له خذها ولا
تخف والخوف أمر ضروري فلا يقع الأمر به جزما فكان الأمر له على جهة التأنيس والإعلام
بأنها لا تؤذيه إذ أخذها وكان مكلفا إذا ذاك ولم يكن ذلك الأمر والنهي له مشروعين وكذلك
قوله تعالى اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء وقوله تعالى لأم موسى فإذا
خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني
وكذلك قوله عليه السلام في الصحيح إذ رأى رجلا يقطعه الآل فقال كن أبا خيثمة فإذا هو
أبو خيثمة فهذا أمر على وجه الخير كأنه يقول هذا أبو خيثمة إلى غير ذلك
ويكفيك أن الآخرة ليست بدار تكليف وفيها أوامر ونواه مثل قوله تعالى للمؤمنين على جهة
البشارة ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون وقوله تعالى ادخلوها بسلام آمنين وقوله
تعالى للكافرين على جهة الإغلاظ والترويع فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى
المتكبرين وقوله تعالى اخسؤوا فيها ولا تكلمون على جهة التحقير والخزي والطرد وقوله
تعالى على جهة التصير لأصحاب السبت كونوا قردة خاسئين وقوله تعالى على جهة
التعجيز كونوا حجارة أو حديدا إلى غير ذلك من أنواع الأوامر والنواهي
وإذا كان هذا هذا فمن أين لقائل أن يقول إن نهي آدم عليه السلام كان على جهة الحظر
او الكراهة فإن احتجوا بقوله تعالى إنه عصى وغوى وظلم نفسه
قلنا إذا لم يثبت تكليفه في الجنة فتخرج هذه الألفاظ على مقتضى اللغة فإن المعصية في
اللسان عدم الامتثال كانت مقصودة أو غير مقصودة وظلم النفس غبنها وبخسها في
منافعها لكونه وضع الفعل في غير موضعه وكذلك غوى أدخل على نفسه الضرر يقال غوى
الفصيل إذا رضع فوق حده من اللبن فبشم فعلى هذه الوجوه تخرج هذه الألفاظ
فإن قيل إذا خرجتم هذه الألفاظ على هذه الوجوه فما قولكم في
قوله تعالى فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما وفي قوله فدلاهما بغرور إلى غير ذلك فنقول
تخرج هذه الألفاظ أيضا على جهة قصد الشيطان والتعريض بالوسوسة إليه لا على قصد
القبول من آدم عليه السلام لوسوسته وخدعه فإن الشيطان قد يوسوس إلى الأنبياء ولكن
لا يقبلون منه قال تعالى لنبينا عليه الصلاة والسلام وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ
بالله وقال له وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون
وسنحيل ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى
وجملة الأمر أنه إذا لم يثبت تكليف لم يثبت إيجاب ولا حظر ولا طاعة ولا معصية يقع فيها
ذم شرعي ولا مدح ولا ثواب ولا عقاب وهذا ما أجمع عليه أهل السنة
فصل
فإن قيل فإذا كان ذلك كما زعمتم فما المختار عند أهل الحق في هذه القصة وما
معتقدهم فيها وكيف التخلص منها
فنقول التخلص منها عند أهل الحق إن شاء الله أن الله تعالى نهاه على جهة الإرشاد
والإعلام والنصيحة لا على نهي التكليف ووسوس إليه الشيطان على جهة الإغواء والحسد
والمكر فلم يقبل منه ثم
أنساه الله تعالى بعد ذلك إرشاده إياه ووصيته له ووسوسة الشيطان إليه فأكل منها غافلا
عن الوصية والوسوسة
وإذا كان ذلك لم يبل هل كان عند ذلك نبيا أو لم يكن نبيا فإن الناسي لا طلب عليه في
الشرع ولا ذم بالإجماع والدليل على أنه نسي قوله تعالى ولقد عهدنا إلى آدم من قبل
فنسي ولم نجد له عزما يعني عهدنا إليه في أمر الشجرة فنسي العهد فأكل منها من
غير عزم على أكلها ولا متعمدا لاطراح الوصية والنهي أو نسي المراقبة لتلك الوصية ولم
نجد له عزما على المراقبة فألقي عليه النسيان بتركه المراقبة فأكل منها ولا يصح في
حقه عليه السلام مع شهادة القرائن وعظم المكانة غير هذين الوجهين مع أن العزم في
اللسان هو الإرادة التي يقع معها الفعل وقد نهاه تعالى عنه فلم يبق إلا أنه أكل ناسيا من
غير عزم
فإن قيل وما دليلكم على أن العهد المنسي إنما كان في أمر الشجرة والعهود كثيرة كعهده
له في حمل الأمانة وغيرها
فنقول دليلنا على ذلك أنه لو قصد ارتكاب نهي الله تعالى وترك نصيحته له مراعاة لمكيدة
الشيطان ومكره به وقبوله منه فأكل منها متعمدا لصحة قول اللعين تاركا لوصية الله ونهيه
متعمدا لتركهما لكان متهما لخبره تعالى مفندا لحكمه مرتكبا لنهيه وهذه كانت فعلة
الشيطان عند امتناعه من السجود حذوك النعل بالنعل وبها حكم بكفره
فمن اعتقد هذا في حقه عليه السلام فقد رماه برجام الكفر والإبتراك في أوضار الجهل
ودحض المزلات فأما ما كان يبترك
فيه من الجهالات ففي تقليده عدوه الشيطان وقبول قوله من غير دليل في أنها شجرة
الخلد التي توجب الملك الدائم والحياة الدائمة وهذا هو القول بالطبع فإنه لا يخلو أن تفعل
الشجرة ذلك باختيارها أو توجبه بنفسه ومحال أن تفعل باختيارها فإنها جماد ولو قدرت حيا
لم يصح فعلها في غيرها فإن القدرة الحادثة لا تتعلق بما خرج عن محلها فلم يبق إلا الطبع
والقول به كفر فمن قال إنه أكلها قاصدا لما ذكرناه ألزم اعتقاد وقوع هذه الجهالات كلها من
آدم عليه السلام وهي لا تجوز عليه فإنها تؤدي إلى الكفر الصراح
ومعلوم من دين الأمة أنه ما كفر نبي قط ولا جهل الله تعالى ولا سجد لوثن ولا أخبر تعالى
عن واحد منهم بالكفر ولا بما دون الكفر من المعاصي قبل النبوة وبعدها سوى قصة آدم
عليه السلام فمن قال بسوى هذا فعليه الدليل ولا دليل
فإن قيل ولعله كان يعتقد أن إبليس أعلم أنه من أكل منها يخلد في الجنة بإرادة الله تعالى
لا بالطبع والإيجاب
قلنا باطل فإن الله تعالى أعلمه قبل ذلك بنقيض قول الشيطان في أن الأكل منها سبب
الخروج فلو اعتقد الخلود فيها إذا أكل من الشجرة بقول الشيطان لكان مكذبا للخبر السابق
من الله تعالى وهو الذي فرغنا من استحالته عليه فلم يبق إلا أنه أكل منها ناسيا فإنه إذا
لم يصح العمد لم يبق إلا النسيان على أنا لو قدرنا وقوع هذه القبائح من أدنى عاقل مؤمن
من البله منا لم يصح فكيف يصح ممن خلقه الله تعالى بيده وأسجد له ملائكته وجعله قبلة
لهم وعلمه الأسماء كلها وجعله معلما
لهم كلمه بلا ترجمان على جهة الإكرام والإعلام والنصيحة جاء في الصحيح عن أبي هريرة
رضي الله عنه أن رسول الله قال آدم نبي مكلم يعني بغير واسطة إذ من الأنبياء غير
مكلمين قال الله تعالى منهم من كلم الله فكيف يكون آدم عليه السلام مكلما على هذه
الوجوه كما تقدم ثم يقع في مثل هذه الجهالات قاصدا متعمدا حاشى وكلا فيا لله لما
يرتكبه الجاهل من نفسه من حيث لا يشعر
فخرج من مجموع ما ذكرناه أنه أكل منها ناسيا وعوتب على نسيانه الوصية إذ لو كان
مراقبا لم ينسها على مجرى العادة فهذا هو الحق الذي يرغب فيه ولا يرغب عنه ولا يصح
أن يعتقد في حقه ولا في حق نظرائه من النبيين والمرسلين سوى ما ذكرناه أو ما يضاهيه
من الشروح التي لا تخل بقدره ولا تغض من جاهه واجتبائه واصطفائه كما أخبر تعالى عنه
فإن قيل ولعله أكل منها غير قابل لمكيدة الشيطان ولا راد لوصية ربه وإرشاده إياه أو ناسيا
لمكيدة الشيطان عالما بوصية ربه لكن لشهوة غلبت عليه حتى هان عليه الخروج من
الجنة لتحصيل تلك الشهوة
قلنا هذا لا يصح في حقه عليه السلام لأنه مؤذن بضعف عقل فاعله وشدة شرهه وسوء
رأيه وقلة علمه والتقحم على خسيس الشهوة
رضى بالنقمة وليست هذه أخلاقه ولا شيمته بل كان رأس العقلاء ورئيس الحكماء ومعلم
الملائكة ولو حكي هذا عن عاقل من لفيف الناس لاستبعد في حقه فكيف في حق من
كلمه الله بلا ترجمان على جهة الإكرام فلم يبق إلا أن النسيان الذي أخبر الله عنه وعدم
العزم إنما كان في أمر أكل الشجرة لا غير
فهذا هذا ولم يبق بعد الخروج عن هذه الإلزامات في أنه أكل منها ناسيا مطعن لطاعن
والله أعلم
ولتعلموا أرشدنا الله وإياكم أن هذه النكتة الغريبة في أمر النسيان الذي خلص هذه القصة
من التخيلات الفاسدة والآراء المضطربة قد تقدم إليها غير واحد من العلماء وذكرها لا سيما
مشايخ الصوفية فإنهم على هذه القولة عولوا لكنهم لم يتخلصوا منها كل التخلص بل
نزهوه عنها تنزيها جمليا غير مفصل بمثل هذا التفصيل
ولقد تحيرت في إثبات هذا التخلص على هذا الوجه منذ سنين لمعارضة هذا النسيان بذكر
المعصية والغواية والظلم حتى تذاكرت يوما فيها مع الفقيه العالم المتفنن أبي العباس
أحمد بن محمد اللخمي أدام الله كرامته فكان منه في درج المذكرة ما يليق بمثله من
التنبيه فيها على بعض نكت نادرة مؤيدة بالتوفيق الرباني فثلج به الصدر إذ لا يصح سواها
كما قدمناه
وأخبرني مع ذلك أنه أتعبه النظر في حل مشكلاتها مدة طويلة حتى فتح عليه فشارك
بحمد الله وأعان على ما كان تعذر منها بارك الله له فيما
منحه وبارك لنا في حياته وبقائه وصحة معاملته ومعونته فانظر أيها اللبيب الفطن إليها نظر
المتناصف ولا تعدل عن هذا الشرح إلى سواه لئلا يفتح عليك باب من الفساد ولا يمكنك
سده فإنه إذا جوزت عليه المعصية المنهي عنها شرعا جازت على من بعده من الأنبياء
عليهم السلام وإذا لم تجز عليه فأحرى ألا تجوز على من بعده منهم لكونهم لم يذكر لواحد
منهم معصية في الكتاب ولا في السنة ضمنا ولا تصريحا ولا يجوز وقوعها عليهم كما
قدمناه
ثم إن الله تعالى لطف بآدم عليه السلام في أكله من الشجرة بعد النهي عنها من ستة
أوجه
أحدها أنه لما اسجد له ملائكته على جلالة قدرهم وصيره قبلة لهم ومعلما لطف بقلبه ألا
تخطر به لفتة عجب فامتحنه بأكل الشجرة فلما أكل منها عوتب عليها فتواضع
الثاني أنه كان منبسطا فلما أكل منها انقبض فسلم من وهلات البسط لأن الله تعالى لا
يعامل إلا بالخوف والقبض
الثالث أنه امتحن التكليف وكد المعيشة في الدنيا ليحصل له مقام الصبر
الرابع أنه رزق من طيبات ثمراتها ليلتذ بها فيشكر نعم الله تعالى عليه فيجمع بين الصبر
والشكر
فإن قيل فقد كان يتنعم في الجنة بأكثر مما يتنعم في الدنيا قلنا كان يتنعم من غير تعب
سابق ونعيمه في الدنيا ممزوج بالمشقة والتنعم بعد المشقة يؤكد خالص الشكر وأيضا
فإنه لم يكلف في الجنة كما تقدم فما كان يؤجر على شكر لو وقع منه
الخامس أنه لما خرج من دار التنعم والدعة إلى دار المشقة
والتكليف صحت له المعاملة بالكسب والدرجات بالطاعة وميزان الجنة بالعمل
السادس أن تحصل له أجور ما ينتهك بعض ذريته من حرمة عرضه في هذه القصة فإنهم
يغتابونه في اقتفاء ما ليس لهم به علم وكفى بالمرء عقوقا أن ينتهك عرض أبيه
فهذه رحمك الله ستة ألطاف به في ضمن كل لطف منها مقام كريم لآدم عليه السلام كما
قيل
لعل عتبك محمود عواقبه ... فربما صحت الأجسام بالعلل
من كتاب
تنزيه الأنبياء[/center][/size]