طيلة أكثر من عقد من الزمن والحديث لا يكاد ينقطع عن الرغبة الأكيدة في طي ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالمغرب.
ورغم كل النقائص التي سجلت في هذا الباب، إلا أن ما تم قطعه يبقى على الأقل أفضل من التعايش مع ماض أسود يسمم الحاضر ويرهن المستقبل.
والمقصود بالنقائص هنا هو عدم متابعة الجلادين على ما اقترفوه، ولو من خلال محاكمات رمزية، بدل تحميل المواطن البسيط دافع الضرائب وحده "صائر" المصالحة عن تجاوزات كان هو نفسه ضحيتها بشكل أو بآخر.
لكن هل طوينا فعلا صفحة الماضي، وأصبح الحاضر أبيض والمستقبل مفتوحا على التفاؤل؟
يمكن أن يكون الجواب نعم إذا نظرنا إلى الموضوع بعين الذين استفادوا ماديا ومعنويا من هذا الطي وغنموا التعويضات والمناصب. بينما قد يشكل هذا الجواب أرضية سجال طويل بلا نهاية إذا نحن نظرنا إليه بعين من يرون أن لا شيء تغير وأن اللمسات التجميلية لا يمكنها أن تخفي حقيقة الوجه البشع للمخزن.
وبطبيعة الحال ليس هنا مكان الانخراط في هذا السجال العقيم الذي لا يمكن الوصول فيه إلى أرضية مشتركة بين من لا يرون سوى النصف المملوء من الكأس، ومن لا يرون سوى نصفها الفارغ.
ومع ذلك يبقى هذا المدخل ضروريا لإثارة موضوع لا يقل أهمية، لم يسبق أن تمت إثارته من أية جهة كانت، ويتعلق بضرورة رفع السرية عن بعض الملفات "الحساسة" التي لا شك في أنها مركونة في مكان ما من ذاكرة "أم الوزارات"، ولا أقصد هنا طبعا ما له صلة بالقضايا العالقة من ملفات حقوق الإنسان، وما تبقى من حالات غير محسومة ضمن ما يعرف بالاختفاء القسري، بل أقصد مسألة مغايرة تماما.
فمطلب رفع السرية -في اعتقادي- يفترض أن يطال ملفات الانتخابات التي أجريت على امتداد "المسلسل" الديموقراطي طيلة الأربعين سنة التي تلت الاستقلال.
ولا بد من التنبيه هنا إلى "الإجماع" الحاصل بين كافة الفرقاء على حصول عمليات تزوير واسعة خلال كل تلك الاستحقاقات، أدت إلى التلاعب بالديموقراطية الوليدة، بشكل اضطر المغرب في نهاية المطاف إلى الإشراف على "السكتة القلبية" عشية نهاية عهد وبداية آخر.
كما تجدر الإشارة إلى أن المطالبة برفع السرية عن هذه الملفات له هدف أكاديمي صرف، ولا يمكن أن يكون مدخلا لصرف تعويضات جديدة لمن قد ينصبون أنفسهم متضررين من تلاعبات السلطة وتزويرها لإرادة الناخبين.
بعبارة أخرى إن الهدف الوحيد من هذه الخطوة هو فتح الطريق أمام الباحثين والدارسين والفضوليين وعموم الرأي العام لاستخلاص النتائج من ظاهرة "التزوير المنهجي" التي رافقت التجربة منذ بدايتها.
وما لم يتم الإقدام على هذه الخطوة، فإن التجربة ستظل قاصرة، لأنه لا يمكن فهم الحاضر واستشراف المستقبل دون تفكيك الماضي بما له وما عليه.
إن ما أسعى إليه من خلال هذا الاقتراح هو تسليط الضوء على جانب توافق كل المتدخلين على إغفاله، ربما لأن "التزوير" تمت خوصصته، وأصبح بعض من كانوا ضحاياه يحتلون اليوم الواجهة، ممن تفرض عليهم مواقعهم "تحت المظلة أو بجانبها" ادعاء القطيعة مع الماضي مع أنه الأب الشرعي للحاضر.
إن ما أريد الوقوف عنده هنا هو أن الأرشيف الانتخابي سيكشف لنا من هي الأحزاب التي كانت تحظى بحضور حقيقي في الساحة، وكانت قادرة على التعبئة والاستقطاب، رغم ضعف الوسائل والإمكانيات في مجال التواصل، ورغم المضايقات والتضييقات والمطاردات والمتابعات، وفي ظل احتكار السلطة لوسائل الإعلام الأكثر تأثيرا أي الإذاعة والتلفزة، وفي ظل اللجوء المتكرر للعنف الأعمى العام والشامل وغير المبرر.
فالمعروف أن أحزاب ذلك الزمان كانت نوعين: أحزاب لها امتداد شعبي وقواعد عريضة كانت تحصل على الأغلبية الساحقة من الأصوات المعبر عنها، وأحزاب أخرى كانت تُخلق أو تنشط على هامش المناسبات الانتخابية أو بدعوى الدفاع عن "المشروع المخزني"، ولم تكن تحصل سوى على نزر يسير من الأصوات، في البوادي طبعا حيث سطوة المخزن مطلقة، لكن هذه المعطيات لم تكن تنعكس على النتائج التي كانت تطبخ على نار هادئة، أسابيع أو أشهرا قبل إجراء الانتخابات، إلى درجة أن المقاعد كانت توزع على الناجحين حتى قبل أن يضعوا ترشيحاتهم لدى الدوائر المختصة.
بكلمة أخرى، رغم أجواء البطش والتنكيل والرعب الذي كان المخزن ينشره في كل شبر من التراب الوطني، كانت بعض الأحزاب قادرة على المواجهة والمنافسة الحقيقية، لأنها كانت تتوفر على مناضلين صادقين ينفذ كلامهم إلى أعماق المواطن الذي كان أحسن حالا في تلك الأيام، فعلى الأقل لم يكن المغاربة يومها مضطرين إلى نزع سراويلهم أمام "السياح" لتحصيل لقمة الخبز، كما لم يكونوا يبيعون البقرة والحمار من أجل حجز مكان ضيق على قارب من قوارب الموت المتجهة شمالا.. وإلى إسبانيا على وجه التحديد التي كانوا يسخرون من أهلها.."أولاد بورقعة"..؟..
فبغض النظر عما فعله التزوير العام والمباشر، الذي كان موضة الأنظمة المتخلفة آنذاك، فإن الأحزاب كان لها حضور حقيقي على الأرض، رغم كل المخاطر، ورغم "الرصاص" ورغم كل ما قيل مؤخرا في نعي تلك المرحلة "السوداء"..
ومن المؤكد أن الأرشيف الانتخابي سيوضح كيف أن المواطنين ردوا التحية بأحسن منها، فحين كانت الأحزاب تشاركهم آمالهم وآلامهم وكانت قريبة منهم منحوها أصواتهم في زمن كان فيه حتى رد السلام على "مناضل" تهمة قد تكون سبباً في زيارة مطولة للمراكز إياها.
إن التزوير "العام والمباشر" الذي عوض "الاقتراع العام المباشر"، هو دليل عجز داخلية ذاك الزمان بأوفقيرها ودليميها وبصريها، حيث إنها فشلت في توجيه إرادة المواطنين رغم كل وسائل الترغيب والترهيب التي كانت تتوفر عليها، ورغم جيوش من الأعيان الحقيقيين الذين كانوا طوع يمينها.. وليس تجار الحشيش ومهربي الخردة والمضاربين في الخضر والمواشي..كما هو حال "أعيان" اليوم..
حين تحصل أحزاب المعارضة في ذلك الزمان على الأغلبية أو أقل منها بقليل، فمعنى ذلك أن مناضليها كانوا متجذرين في الأرض، وكانت الأحزاب عناوين خلاص للمواطن "الأمي" و"الساذج" كما يصوره "حداثيو" هذه الأيام.
ومن هنا فإن الكشف عن الأرقام الحقيقية للانتخابات التي جرت منذ بداية الستينات وإلى متم التسعينات، سيمكن الدارسين من رسم صورة معبرة لمستوى الوعي الذي كان عليه المواطن المغربي، وبذلك ستتضح حقيقة الحاضر الذي يتغنى به كثيرون.
فالمعروف أن أحزاب المغرب "القديم" لم تكن تتوفر على الإمكانيات التي جلبتها الطفرة المعلوماتية في مجال التواصل، كما أننا لا نعتقد أن مناضليها كانوا قادرين على إنفاق أموال طائلة لشراء الأصوات، والمقصود هنا طبعا الأحزاب الحقيقية التي لم تكن تصنع على طريقة "الكوكوت مينوت" عشية الانتخابات..
إن المقارنة الحقيقية بين الماضي والحاضر تنطلق من هذه النقطة على وجه التحديد، وكل ما عدا ذلك هو مجرد هرطقة، بدليل أن من صوروا المغرب اليوم على أنه جنة حقوق الإنسان لا يستفيقون من صفعة إلا بأخرى أقوى منها جراء التقارير الصادرة عن مختلف المنظمات الحقوقية الدولية التي تعيد المغرب إلى الصف العربي الإفريقي العالمثالثي..
نعم، الإدارة اليوم لم تعد تتدخل بشكل فاضح كما حدث في الماضي، لكن علينا ألا نغفل بعض الإشارات:
فإقرار مصطفى المنصوري بالتدخل لدى والي فاس، رغم أنه يظل في حكم الكلام المرسل، يتضمن مع ذلك إشارة..
والممارسات التي عرفتها انتخابات بعض مكاتب المجالس المحلية والجهوية، لم تدع مجالا للشك بأن ملف التدخل المباشر للسلطة مازال ممكنا..
وأكثر من ذلك فإن الأموال التي راجت في "أسواق" الانتخابات، تبين النوعية الجديدة لـ"المناضلين" الذين تراهن عليهم الأحزاب، وكذا "الأعيان" الجدد الذين تحاول مراكز القرار ملء الفراغ بهم..
بكل وضوح، لقد أفلست الأحزاب تماما ولم يعد في جرابها أية ورقة لتلعبها، ولذلك اختصر عبد الرحمان اليوسفي المشهد حين أدرك في نهاية مشواره السياسي أن الأهم هو المقاعد، ولا تسألوني كيف؟
والسلطة هي الأخرى أفلست، لأن "الأعيان" الذين راهنت عليهم في العقد الأخير لم يكونوا في مستوى سابقيهم.
فهل علينا انتظار الساعة؟